القاضي: ألم يهتز ضميرك مرة واحدة عندما تُعرض عليك عمليات التعذيب والحرق والاغتصاب والجلد والركل والتعليق من الأرجل، وفي أحيان كثيرة القتل، التي يمارسها ضباط الشرطة ضد رعاياك ومواطنيك الذين يأتمنك الرحمن على كرامتهم وحقوقهم وكذلك الوطن والانسانية؟
المتهم: لست مخلوقا من حجر، فقد كنت أتأثر بين الحين والآخر، لكنني قاومت مشاعر الخير في داخلي، ورفضت توجيه كلمة حاسمة وحازمة تسمعها مصر كلها، ويلتزم بها كل رجال الأمن، بأن كرامة المصري تسبق كل ما عداها من اهتماماتي.
كان الأمر في غاية السهولة، ولو أنني ألقيت خطابا عن أهمية حقوق المصريين، وأصدرت عقدا اجتماعيا عن واجبات وحقوق المواطن فيما يتعلق بالعلاقة مع الشرطة ورجالها، وتابعت بنفسي، وأحلت ضباطا للمحاكمة بأوامر رئاسية لما تجرأ ضابط واحد أن يهين مصريا، أو يحرقه، أو يضع العصا في فتحة شرجه، أو يغتصب ابنته أو شقيقته أمامه.
ليس هذا هو المهم، سيدي القاضي، فالمصريون يظنون أنني لا أعلم، ولا أتابع، وبهذا يتحمل المسؤولية وزير الداخلية والضباط والمخبرون، وأتسلل أنا بريئا من جرائم يهتز لها عرش الواحد القهار
القاضي: في عهدك تغيرت سلوكيات المصريين، وقمت بصناعة ثقافة الفهلوة والتسول، وعممت دائرة الاستغلال التي لا تنتهي وتمر على معظم قطاعات الشعب. ألم تكن لديك خطة أمينة لصناعة زمن جميل في سنوات الفقر والمرض والتلوث، لعلك تخفف على مواطنيك من عذاباتهم اليومية؟
المتهم: كيف لي أن أعرف وصفوة البلد من مثقفين وأكاديميين وكتاب وإعلاميين وفلاسفة وحكماء وعلماء يخافون مني، ويلتزمون صمت القبور؟
لقاضي: ألم تكن أنت مسؤولا، بوسائل أمنك وإعلامك وسجونك ومعتقلاتك وجحيم أقسام الشرطة، عن حالة الخوف والفزع التي تسيطر على مشاعر الجماهير؟
المتهم: لقد ذكرت في بداية محاكمتي أن الطريق الوحيد لصناعة العبودية هو الترهيب والتعذيب وامتهان الكرامة وتقزيم الكبار وتصغير كل من حولي.
إنني لم أفعل هذا بمفردي. كانوا يتبرعون للدفاع عني! يشاهدون بأم أعينهم بلدهم تنهار، وتُسرق، وتنهب، وتتراجع، ومع ذلك يستغيثون بي، ويطلبون رحمتي، ويخافون عذابي.
هل قرأت، سيدي القاضي، مقالات كبار الكتاب ورؤساء تحرير الصحف العملاقة ومئات المحررين؟ هل أنا قمت بتهديدهم لكي يجندوا أقلامهم في تبرير أخطائي والدفاع عن فشلي في مهتمي التي ساقف أمام الله، عز وجل، يوم الحشر ولا أملك دفاعا واحدا عنها؟
أنا صنعت عبودية من نوع فريد، لكنني وجدت بسهولة ويسر من يعطيني رقبته، والسيد والعبيد يتلازمان أحيانا كالدجاجة والبيضة فلا يدري المرء من أين يبدأ!
القاضي: لم ترُدّ على سؤالي..ألم تصنع أنت أجهزة أمن، وأعطيت الضوء الأخضر للتعذيب والقمع، وأوحيت إلى ساديي الشرطة بأن كرامة المواطن المصري أرخص من حفنة تراب؟ ألم يمر على سجونك ومعتقلاتك ربع مليون من رعاياك طوال فترة حكمك؟
المتهم: هذا صحيح تماما، لكنني لم أستورد الزبانية وحراس السجون وجلاديي الشعب، فقد وجدت منهم أكثر من جراد الحقول.
القاضي: عندما كنت تسافر، وتلتقي برؤساء دول أوروبية، وأنت رئيس واحدة من أعرق وأقدم بلاد الأرض، وأكثر ها امتدادا لحضارة إنسانية انصهرت فيها عدة حضارات. ألم تشعر بخجل ودونية أمامهم، فهم قد وصلوا إلى الحكم عن طريق الاقتراع، والانتخابات النزيهة، وحرية الترشيح لكل مواطن، وحد أقصى للحكم، ورقابة برلمانية، ومؤسسات مدنية، وحساب عسير لأي اهدار لأموال البلد، أما أنت فتستفتي شعبك على شخص واحد، وتحكم بقانون الطواريء الخاص بالحروب منذ أن توليت السلطة، وتحصل لبلدك على مساعدات تتسرب في الفساد الذي صنعه عهدك، ولا تحترم مواطنيك، وتعتدي على السلطات التشريعية والقضائية؟
المتهم: لا أظن أن شعورا كهذا انتابني، فأنا يحيط بي جيش جرار عرمرم من المنافقين والأفاقين والمتزلفين والجبناء والفاسدين واللصوص والنهابين وخصوم الشعب، وهؤلاء يستطيعون ادخال البهجة إلى نفسي، والايحاء لي بأنني أفضل من كل الزعماء الآخرين، وأن أحاديثي يتناقلها العالم كله، وأن عبقريتي لا تقارن بأفكار هؤلاء.
هل قرأت، سيدي القاضي، لرجب البنا وهو صحفي عريق ومخضرم؟ إنه يكتب عني كانني نصف إله أو ما بعد خاتم الأنبياء. في الوقت الذي يتسول المصريون طعامهم من المعونات، يكتب قائلا: إن الرئيس حسني مبارك فعل ما لم يفعله أحد في التاريخ.
إنني أستطيع أن أحصي لك في خلال فترة حكمي مالم يكتبه المؤمنون بدين من الأديان عن نبيهم.
هل تصدق عدالة المحكمة أنه حتى لحظات قليلة من مثولي أمامكم يدافع كثيرون من المصريين عني بحجة أنني لم أكن أعرف حجم المصائب والكوارث التي حاقت بأم الدنيا. إنهم لا يعرفون أن معرفتي أو جهلي يتساويان في حجم جريمة اغتيال وطن.
القاضي: كيف كانت رؤيتك للسياحة كمصدر دخل؟
المتهم: كنت أعرف أنها مدخل لمافيا العقارات، وأن الفساد ينخر فيها كما يفعل في ماسبيرو والشهر العقاري ومجمع التحرير والمصارف، وأن شركات السياحة تدفع ( إتاوة ) حتى يتم التعامل اللائق مع الركاب وإلا فسيذيقهم صبيان ثقافة التسول الأمَرّين.
وكنت أعرف أن مصر من أغلى دول العالم، وأننا لا نستطيع أن ننافس جزرا صغيرة ودولا مجهرية تقدم خدمات سياحية أفضل من كل وعود الدكتور ممدوح البلتاجي.
السياحة في مصر لا علاقة لها بالمصريين، إنما هي شركات استثمارية تستفيد من الاعفاء الضريبي، وتتولى تشغيل مصريين في مهن خدمية، ومنها تتسرب مليارات الدولارات بالعملة الصعبة لخارج البلاد.
لكن وزير السياحة يقوم بتلميع صورتي، ويتكلم عن توجيهاتي الحكيمة، ويقص علي حكايات لا أول لها ولا آخر عن المعارض الدولية، وعن المديح الذي يكيله الأوروبيون لرئيسه العبقري. كنت أعلم أن الأسعار في شرم الشيخ أغلى من كل بقاع الدنيا. لكنني احتفظت بالوزير كعادتي بتمكين الفاشلين من أهم مناصب الدولة.
لقاضي: لماذا انتظرت سنوات طويلة قبل البت في قرار عدم الحبس في قضايا النشر؟
المتهم: لأن المثقفين والاعلاميين والصحفيين والكتاب هم ضمير الوطن، وقد أحببت أن ألقنهم درسا بالغ الأهمية في العلاقة معي، فجعلتهم يحتجون، ويناضلون، ويكتبون، ويرفعون الشكاوى، ويلجأون للقضاء، ويوحون للسلطة التشريعية من أجل الموافقة على القرار بمنع الحبس في قضايا النشر.
ومرت أعوام، وهنا وجدت أنهم تعلموا الدرس جيدا، وأنني صاحب القرار الأول والأخير في هذا البلد، فأصدرت الأمر بتعليق الحبس واستبداله بالغرامة الكبيرة.
هل تعرف، سيدي القاضي، ماذا حدث من صفوة أبناء البلد والنخبة الواعية؟ لقد شكروني شكرا مهينا ومذلا متناسين أنني صاحب قرار المنع طوال تلك السنوات.
إنني أتعامل مع أصحاب ذاكرة ضعيفة، فما بالك بعامة الشعب؟
القاضي: أغلب الظن أنني ساحتاج لعدة أشهر وآلاف الملفات ومئات المجلدات لنرصد، ونحاسب جرائم قتل بلد كامل.
وهنا لم يتمالك رئيس المحكمة نفسه، وانزلقت من عينيه دموع أراد اخفاءها فلم يفلح، فهو للمرة الأولى يقف أمام جريمة اغتيال أمة، واستهتار بالقيم والمباديء، واحتقار شعب بكامله، واذلال أبرياء، ونهب ثروة، واهدار خيرات، وفتح الباب على مصراعيه للصوص القرن، بل الألفية!
وطلب استراحة، ووقف بصعوبة بالغة ليتجه إلى مكتبه.
أما المتهم فجلس مكانه واجما، يتجنب نظرات الحاضرين، ويستعيد في خياله مُلكا ظن أن أيامه خالدة، وأن الشعوب لا تتمرد أو تثأر أو تغضب بين الحين والآخر حتى لو امتد هذا ( الحين ) عدة عقود.
بعد أربعين دقيقة عاد رئيس المحكمة بصحبة مستشاريه. وانطلق صوت الحاجب مرة ثاني: محكمة!
القاضي موجها حديثه للمتهم، الرئيس محمد حسني مبارك، بلهجة امتزج فيها الغضب بالحسم في صوت جهوري: هل كنت تعلم أن بيانات رئيس الوزراء منقطعة الصلة بالحقائق، وأنها أكاذيب وتلفيقات واحصائيات غير صحيحة وأرقام من نسج خياله؟
المتهم: كنت أعلم ذلك، لكنني تركت رئيس الوزراء ككبش فداء، يسخر منه فلاح كفر الهنادوة، ويصب أعضاء مجلس الشعب من القوى المشاغبة غضبهم عليه، ويتحمل عني المسؤولية، وتبدأ عمليات التنفيس عما بداخل النفس في مسرحية سخيفة من الديمقراطية، تم فيها التجديد لرئيس مجلس الشعب أربع عشرة دورة، وهو يتعامل مع الأعضاء بنفس الاحتقار والازدراء الذي أعامل أنا به أبناء الشعب.
القاضي: ما هي الصفة الرسمية لابنك جمال مبارك ؟
المتهم: رسميا هو رئيس لجنة في الحزب الوطني تصنع السياسة للحزب الحاكم.
أما عمليا فهو الرئيس الفعلي للدولة بسلطاتي واسمي، ويستطيع أن يمسح الوزراء من على خريطة الحكومة، وعندما نظم مظاهرة استعراضية ضد الحرب الأمريكية على العراق، جمع أكثر من مليون متظاهر بفضل اعلام صفوت الشريف وعشرات الالاف من الحمقى المغيبين في الحزب الوطني. هنا وقف بجانبه كل كبار الدولة كأنهم جرذان خائفة، يرتعدون أمامه، ويبتسمون إذا ابتسم، ويطمعون في رضاه. عندما رفع رئيس الوزراء السابق كمال الجنزوري نبرة صوته أمامه بعد حادث موكبي في بورسعيد، تسلم الجنزوري ورقة الاستقالة مني بعدها بقليل دون أن استقبله، هكذا نحن، سيدي القاضي، تعاملنا مع هؤلاء الرعاع. إنني وأسرتي من فصيلة مختلفة تماما عن المصريين، وفي عروقنا تجري دماء شريفة ونقية.