--------------------------------------------------------------------------------
القاضي: هل تعرف حجم ديون مصر في عهدك؟
المتهم: عشرات المليارات، ولا أتذكر بالتفصيل فهي من صغائر الأمور التي لم اكترث لها، ويمكن للمصريين بعدما ينتهي حكمي أنا وابني وربما حفيدي لنصف قرن قادم أن يتعرفوا على حجم الديون!
القاضي: من هو أحمد عز صديق ابنك جمال؟
المتهم: إنه عصامي ناجح، كون ثروة من مليارات الجنيهات من احتكار الحديد والصلب، ولحمايته قام ابني بتعيينه في منصب مسؤول عن الشؤون الزراعية والمالية في مجلس الشعب، وبالتالي تصبح الرقابة على أموال الشعب من نصيب حيتان المال الجدد الذين صنعهم عهدي.
القاضي: لماذا لم تهتم بملفات المخابرات ومباحث أمن الدولة التي كان بامكانها أن تمدك بتفاصيل دقيقة لكل رجالك ووزرائك ومحافظيك ومستشاريك فتقيل منهم الفاسد وتحتفظ بالصالح والشريف والنزيه والنظيف؟
المتهم: كأنك، سيدي القاضي، لم تنصت إلي أو تسمع كلمة واحدة مما ذكرت! إنني لم أبحث مرة واحدة عن عبقرية أو كفاءة أو اخلاص، وإذا وقعت مصادفة على أحد هؤلاء فلا يمر وقت طويل حتى أتخلص منه.
وماذا سيحدث إن طلبت من المخابرات ومباحث أمن الدولة أن تقدم لي ملفات مفصلة عن حسابات رجالي وأولادي، وعن الاتصالات مع اسرائيل، وعن التقاسم مع رجال الأعمال، وعن عالم الكيف وتزوير الانتخابات والبلطجة وتجاوز سيادة القانون ؟
إنها كارثة لا تبقي ولا تذر. ولو تم نشر ملفات المخابرات ومباحث أمن الدولة لما بقيت أنا وأسرتي في الحكم يوما واحدا
القاضي: هل تعرف ثروة ابنك علاء مبارك، وكيف قام بجمعها؟
المتهم: أليس من حق ابني أن يصبح مليونيرا أو مليارديرا في عهدي؟ كان يعمل في البزنس، وهو عالم عجيب من الطلاسم والألغاز والصفقات الاحتكارية والسلطة التنفيذية، لكنني جعلت الحديث عن ابني محرما في وسائل الاعلام كلها. كان علاء كشقيقه جمال أكبر من القانون والدستور والشعب. لا أعرف ثروته حتى الآن، لكنه كان غنيا بما يسمح له بحياة كريمة لمدة سبعمئة سنة أو يزيد.
القاضي: حدثني عن سلطة ابنك جمال مبارك.
المتهم: لقد أعددته منذ أن توليت السلطة، وشاهدت بأم عيني أبناء الزعماء العرب يثبون على كرسي الحكم واحدا وراء الآخر، أو يجمعون في أيديهم خيوط اللعبة السياسية، ويتحصنون وراء السلطة التنفيذية، ويتم الايحاء لوسائل الإعلام بعدم الاقتراب منهم، فلماذا لايكون جمال مبارك وارثا للحكم بعدي؟
القاضي: لكنك صرحت مرات عدة بأن مصر ليست سوريا، وأنك ترفض توريث العرش، أليس كذلك؟
المتهم: كنت أعد سيناريو آخر بالاتفاق مع رئيس مجلس الشعب، وفي الجانب المقابل تمكن ابني من تكوين خلايا شعبية كأنها جراد من شبيبة الحزب الوطني الحاكم، وهؤلاء مغيبون ومخدرون في عالم من الحماقة والاحساس بالأهمية كأعضاء فاعلين في حزب السلطة، ليتحرك الطرفان فتصبح السلطة التشريعية والجماهير المهووسة ضلعين متساويين ليكونا سندا لابني في تولي الحكم.
القاضي: ألم تفكر في اجراء انتخابات حرة يتساوى فيها المصريون؟
المتهم: لم تدر بذهن قط هذه الأفكار المثالية لعالم المساواة والحقوق والديمقراطية، فأنا لآ أتساوى أو ابني مع هؤلاء الرعاع، وليشكروا ربهم أنهم كانوا يعملون في خدمتي.
القاضي: لكنك أقسمت أن تحترم الدستور والقانون والوطن والمواطن، لماذا نكثت بوعدك؟
المتهم: يبدو، سيدي القاضي، أنك ساذج وتسبح في عالم المثاليات.
إنني اقسمت فعلا، لكن لذة السلطة قادرة على قلب المشاعر والعواطف والآراء والثوابت والمباديء والأخلاقيات، لذا نكثت بوعدي، وجعلت كرامة المصري تحت حذائي، ورفضت تعيين نائب لي، وحكمت مصر بالحديد والنار وقوانين الطواريء، وتركت البلد ينزف، وأفسحت المجال للصوص والنهابين والهبارين ليتقاسموا مصر. كنت أكره هذا البلد وشعبه كراهية شديدة، ولو قدر الله ومكثت في الحكم عقدا آخر أو اثنين فربما جعلت المصريين يتسولون طعامهم من دول أفريقية فقيرة
القاضي: كيف ترى كرامة المصري المغترب في الخارج؟
المتهم: إنه آخر اهتماماتي، بل لا أخفي عليك، سيدي القاضي، أنني كنت أنتشي فرحا وأنا أرى جثث المصريين تنزلق في نعوشها من أحشاء الطائرة القادمة من بغداد، فأعرف أن جلادي صدام حسين قاموا بتصفية أبناء شعبي، ولم أرفع صوتي يوما واحدا، أو أقدم احتجاجا، أو أطالب بعودة المصريين من جمهورية الخوف.
نفس الأمر ينسحب على العقيد معمر القذافي الذي كان يدفع أموالا لمصر مقابل صمت الحكومة، فأمتهن هو كرامة المصريين، وابتلعت أنا كرامتي.
القاضي: هل تعرف حجم الأموال التي تم تهريبها بعد نهبها في عهدك؟
المتهم: لا أستطيع أن أحصيها، ربما عشرات المليارات، وربما مئات أو أقل.
القاضي: وماذا عن دخل مصر من السياحة وقناة السويس والتصدير والبترول وتحويلات المصريين في الخارج والمساعدات التي تتدفق على مصر من كل الدول الغنية تقريبا؟
المتهم: كان يمكن أن تجعل مصر في مصاف الدول الغنية، فالكويت بمفردها استثمرت في مصر عن طريق صندوق التنمية بأكثر من خمسة عشر مليار جنيه، ولك أن تتصور، سيدي القاضي، حجم الأموال التي دخلت مصر، وخرجت منها نهبا، أو تم اهدارها وتبذيرها في مشروعات فاشلة، لكنني لم أكن أملك رؤية تطورية، ولا أفهم في إدارة وتنظيم شؤون مؤسسات دولة، فتسربت أموال مصر إلى جيوب وبطون رجال قمت أنا بصناعتهم، وقاموا بحمايتي.
القاضي: في عهدك أكلت الأمراض أجساد المصريين، ومنها البلهارسيا والكبد الوبائي، وامراض التلوث، وسوء التغذية. لماذا لم تخصص من مئات المليارات مبلغا، ولو على مضض لذر الرماد في العيون، وتطلق مشروعا قوميا لعلاج المواطنين؟
المتهم: وماذا كنت استفيد من علاجهم؟ إنهم يموتون ويأتي غيرهم في انفجار سكاني مخيف.
القاضي: ألم تفكر في محو أمية ملايين من رعاياك؟
المتهم: اضطررت تحت ضغط المنظمات الدولية إلى اطلاق مشروعات هزيلة بعد عشرين عاما من تولي السلطة، وتولت سيدة مصر الأولى إدارة مشروعات محو الأمية وثقافة الطفل ومكتبة الاسكندرية
القاضي: ماذا تقصد بسيدة مصر الأولى؟ هل هي وظيفة أم منصب فخري وشرفي، أم هو عمل رسمي تؤديه بعد تقديم طلب لرئيس الدولة أو مجلس الشعب أو الوزارة المسؤولة لرصد الميزانية؟
المتهم وقد انفجر ضاحكا حتى اهتزت لضحكته قاعة المحكمة: وهل كانت سيدة المصريين تحتاج لميزانية؟ ألم أقل لك، سيدي القاضي، أنك تعيش في عالم المثاليات. أُمّ جمال وعلاء كانت تستطيع أن تشير إلى مصباح علاء الدين فيخرج المارد رغم أنفه، وتنفق على أي مشروع، ولا تستطيع جهة قضائية أو تشريعية أن تحاسب أو تسأل، ناهيك بالقارعة وهي التردد في تنفيذ طلباتها، فأسرتنا الشريفة لا تستأذن العبيد، وعلى المصريين السمع والطاعة ما أمرتهم أو أمرهم أحد من أفراد أسرتي.
القاضي: أين انتهت التحقيقات في مصرع الخبراء العسكريين المصريين الذين وضعتموهم في طائرة واحدة تعبر أجواء نيويورك، وتعرف تحركاتهم المخابراتُ الصهيونية والأمريكية؟ هل هذا عمل يمر مر الكرام على قائد سابق للقوات الجوية؟
المتهم: هل هذا السؤال استفسار أم اتهام؟
القاضي: لا يستطيع أحد أن يتهمك في أمر كهذا، فقد كنت قائدا عسكريا لجيش وطني عظيم، لكن الألغاز وعلامات الاستفهام التي تحيط بكارثة مصرع أكثر من ثلاثين من خيرة خبرائك العسكريين تدفع إلى أهمية مزيد من التحقيقات.
المحكمة هنا لا تتهم، لكنها تشعر أن الحادث ليس مصادفة.
المتهم: لا أستطيع الحديث باسهاب عما حدث، لكنني أرجو من عدالة المحكمة أن تقوم بتأجيل هذا السؤال
القاضي: هل عرضت عليك أية جهة أجنبية أو مستثمر عربي أو مصري إقامة مدينة كاملة لنقل سكان المقابر الذين يشاطرون الأموات قطعة أرض مزدحمة في مشهد مذل لكرامة مواطنيك؟
المتهم: في الحقيقة لو أنني أردت اطلاق مشروع قومي ضخم لكانت الدول الغنية، أوروبية أو خليجية أو اليابان، ستتسابق لدعمه، ومساحة مصر مليون كيلومتر مربع، وكنا سنجد بسهولة مكانا يعيش فيه سكان المقابر بكرامتهم فوق أرضهم، لكنني، كما تعرف، مشغول باستقبالات وحفلات ومحادثات ثنائية وزيارات لدول العالم.
القاضي: هل تعرف حقا ما هي مهمتك التي من أجلها تجلس في القصر الجمهوري بعابدين؟
المتهم: القَسًم الذي أديته يقول بأنني خادم للشعب، لكنني أفهم وظيفتي بطريقة مختلفة تماما. فالمصريون كلهم تحت قدمي، يطيعونني، ويبحثون عن سعادتي، ويبررون أخطائي، ويعبقرون صغائري، ويستغيثون بي إن ألم بهم خطب، ويخافون مني ومن أجهزة الرعب التي أبثها في كل مكان،
القاضي: كيف كنت تجد الوقت لإدارة شؤون البلاد، ووضع حلول لمشاكل شعبك، وانهاء معاناتهم، وتحسين أوضاعهم المعيشية؟
متهم: لم يكن لدي دقيقة واحدة لقضايا ومشاكل وأوجاع وهموم ومطالب المصريين، فيومي مشحون باستقبالات، أو اتصالات بقادة الدول الكبرى، أو السفر إلى الخارج، أو افتتاح مشروع ، وفي هذه الحالة تتعطل الدولة، ويتوقف المرور، ويغادر رئيس الوزراء وكل الوزراء مكاتبهم ليكونوا في استقبالي، ثم في وداعي. لا يتخلف أحد منهم. إنهم يعرفون أن وجودهم بجانبي حماية لهم، أما أن يتصور أحدهم أنه مشغول بوزارة الدفاع أو الأشغال أو التموين أو غيرها فغير مقبول لدي!
القاضي: لو كان معك نائب للرئيس يقاسمك السلطة، ويفسح لك وقتا للاهتمام برعاياك، فربما كان الوضع قد تغير بعض الشيء، أليس كذلك؟
المتهم: الفكرة كانت محرمة على ذهني، ومحظورة على خيالي، وممنوعة من الاقتراب من كل المحيطين بي. كيف يمكن، بربك سيدي القاضي، أن يقاسمني مصري آخر جزءا ولو ضئيلا من السلطة؟
ثم إنني لم أجد من بين ملايين المصريين من هو صالح لهذه المهمة كما كنت أنا نائبا للرئيس الراحل أنور السادات!