تتزايد التقديرات القائلة: إن السلطة الفلسطينية تتجه نحو الانهيار، ويتشارك في هذه التقديرات العديد من قادة ومسؤولي الدول التي تتابع تطور الأوضاع في الأراضي الفلسطينية. وبين هؤلاء مسؤولون أوروبيون وأمريكيون؛ بل بين القائلين باحتمال انهيار السلطة الفلسطينية مسؤولون إسرائيليون، كانوا قد حذروا من نتائج السياسة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، واحتمالاتها في أن تؤدي إلى انهيار شامل للسلطة الفلسطينية.
ويرتبط احتمال انهيار السلطة الفلسطينية بالواقع السائد في الأراضي الفلسطينية، حيث يتزايد تدهور الواقع الأمني والسياسي، وتتفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. ويسوء الواقع المعيشي والصحي والتعليمي، مما يجعل الحياة الفلسطينية تواجه مأزقًا متعدد الأبعاد، يقربها من استحالة الاستمرار في أوضاعها وصيغها الراهنة.
مؤشرات الانهيار
وتخوفات انهيار السلطة الفلسطينية، هي تخوفات حقيقية ومحتملة، بل يمكن القول: إن فصولها الأولى بدأت تتوالى. وفي عداد ذلك عجز السلطة عن دفع رواتب ومستحقات جهازها الإداري، وفي عجزها عن تلبية احتياجات الفلسطينيين، ليس في الجوانب الأمنية - الدفاعية، بل أيضًا في الخدمات الصحية والاجتماعية، التي يفترض القيام بها من جانب السلطة الفلسطينية. ولعل حالة اعتكاف موظفين في الجهاز الإداري والفني للسلطة - وبعضهم مقيم في الأردن منذ أشهر - بين مقدمات انهيار السلطة الفلسطينية.
وإذا استمرت هذه المعطيات وتطورت في نسقها الحالي، فقد لا يمر وقت طويل حتى تنهار السلطة الفلسطينية، ويسود الفراغ في مناطق الضفة وغزة، مما يمهد لحدوث تطورات دراماتيكية من الصعب التكهن بها؛ وإن كان من الممكن القول: إن إشكاليات سياسية واجتماعية واقتصادية كبرى سوف تظهر.
أسباب الانهيار
وإذا كان السبب الأساسي لانهيار السلطة الفلسطينية ناتج عن السياسة المتعددة الأبعاد، التي تطبقها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، فإن ثمة أسبابًا أخرى تتوزع في مستويين: أولها: المستوى الداخلي الذي تنتظم فيه جملة العلاقات الداخلية الفلسطينية، وتتجسد فيه ممارسات السلطة، والثاني: هو جملة العلاقات المحيطة بالسلطة الفلسطينية إقليميًّا ودوليًّا.
وفي الجانب الأخير هناك ثلاث نقاط أساسية: أولها: الموقف الإسرائيلي من السلطة، والثاني: يجسده الموقف العربي، والثالث: تمثله سياسات المحيط الدولي، وبخاصة سياسة الولايات المتحدة وأوروبا إزاء السلطة الفلسطينية، خاصة والقضية الفلسطينية على وجه العموم.
الفساد الداخلي
وإن الأهم في جملة الأسباب الداخلية - الدافعة نحو انهيار السلطة الفلسطينية - تمثله مسيرة الفساد المالي والإداري التي كرّستها السلطة الفلسطينية منذ احتلال رموزها لمناصبهم في العام 1993. ورغم أن أمرًا كهذا ليس بجديد في واقع السلطة الفلسطينية، فإن أثره ملموس ومتصاعد في ظل الواقع الحالي سواء على صعيد علاقات السلطة مع بقية القوى الفلسطينية، أو في علاقاتها مع الجمهور الفلسطيني الذي يعاني من اليأس. فانعدمت لديه الثقة بالسلطة في أنها سوف تحسن مستوى حياته، حتى لو انحسر الاحتلال الإسرائيلي، وخرج الإسرائيليون من دائرة التأثير المباشر على حياته اليومية.
إن تعبيرات تردي الأوضاع الداخلية للسلطة، ونتائجها المرتقبة على انهيار السلطة الفلسطينية، تتجلى في مجموعة مظاهر بعضها أصبح ملموسًا، وبعضها الآخر يجري الكلام عنه بصورة واضحة؛ ومنها استمرار سياسات السلطة الداخلية في ذات المنحى الذي كانت تجري فيه قبل اندلاع الانتفاضة. بمعنى أن هذا الحدث بكل أهميته وتنوع محتوياته، لم يترك بصمته على السياسة الفلسطينية، والتي يمكن القول: إنها تردت أكثر في ظل كلام عن نقص الموارد وتدهور الإمكانيات، وهو كلام مبالغ في بعض جوانبه.
العوامل الخارجية
ويترافق مع هذا الخط من السياسة الفلسطينية - وهو عامل مهم في الانهيار المرتقب - تدهور وتردي في علاقات السلطة مع الخارج. وهو أمر لا تحكمه سياسات السلطة، بل مواقف الأطراف الأخرى من السلطة، خصوصًا وفي الموقف من القضية الفلسطينية عامة.
والموقف الإسرائيلي، يقدم نموذجًا واضحًا عن إشكالية الموضوع والتأثيرات المحتملة للعوامل الخارجية في انهيار السلطة الفلسطينية، حيث يضغط الإسرائيليون من كل الجهات على السلطة الفلسطينية؛ لتلبية كل ما تتطلبه المصلحة الإسرائيلية: كما في طلب توجه السلطة إلى وقف الانتفاضة الراهنة، ودعوتها للقيام بمقاومة التيارات والجماعات الفلسطينية المعادية للاحتلال. ولا شك أن توجهًا كهذا يدفع السلطة الفلسطينية للانهيار لعجزها عن تنفيذ المطالب والرغبات الإسرائيلية.
وتأثيرات الموقف العربي في دفع السلطة الفلسطينية للانهيار، تبدو واضحة هي الأخرى، ولعل أبرز ما يجسدها غياب دعم سياسي ومادي عربي فعّال للسلطة الفلسطينية في مواجهة الضغوطات الإسرائيلية - الأمريكية، وفي مواجهة نتائج سياسة إسرائيل الدموية سواء في توجهها نحو ضرب السلطة الفلسطينية ودفعها للانهيار، أو بالسعي لتدمير الواقع الفلسطيني كله.
إن غياب الدعم السياسي للسلطة الفلسطينية ملموس في عدم اتخاذ إجراءات فعّالة ضد سياسة إسرائيل من خلال العلاقة مع الدول ومع المنظمات الدولية، حيث لم تتحرك الدول العربية بصورة جدية وفاعلة لإدانة سياسة إسرائيل، وفضلت البقاء على محيط المناشدة لوقف السياسة الإسرائيلية. وبلغ غياب الدعم العربي للسلطة وللفلسطينيين حده الأعلى في الامتناع بصورة عملية عن تنفيذ قرارات القمة العربية الأخيرة في تقديم دعم مالي مقرر. وكانت الحجة الجاهزة في ذلك، فساد السلطة الفلسطينية، ووضع آليات جديدة لإيصال المساعدات إلى أصحابها، وهو توجه مشكوك في أهدافه.
لقد تبنّت الولايات المتحدة الأمريكية موقف إسرائيل بصدد ما هو مطلوب القيام به من جانب السلطة الفلسطينية في ضوء تطورات الانتفاضة. وبهذا المعنى، يمكن إجمال تأثيرات الموقف الأمريكي على احتمال انهيار السلطة الفلسطينية، وهي تأثيرات تكاد تكون متطابقة مع تأثيرات الموقف الإسرائيلي.
ولا يخفف من تأثير كل العوامل السلبية السابقة، والتي تقود السلطة الفلسطينية إلى الانهيار إلا بضعة مواقف أوروبية محدودة الأثر في دعمها السياسي والمادي للسلطة: أولاً بسبب محدوديتها؛ وثانيًا بسبب تخوفها من الموقف الأمريكي - الإسرائيلي، وعدم استعدادها للانفصال عنه، والدخول في مجابهة معه.
انهيار السلطة.. تقديرات إسرائيلية متعارضة
وإذا كانت أسباب انهيار السلطة الفلسطينية تتوالى وتتعمق، فإن السؤال الجوهري يكمن في طرح سؤال عن المستفيد عمليًّا من انهيار السلطة، وهو يستتبع سؤالاً آخر عن مستقبل الفلسطينيين في الضفة وغزة بعد انهيار سلطتهم الحالية؟
إن المستفيد الرئيسي من انهيار السلطة الفلسطينية، هو الطرف الإسرائيلي الأكثر تشددًا وتطرفًا والذي تمثله الحكومة الإسرائيلية الراهنة برئاسة إريل شارون، والتي ترى في تدمير السلطة الفلسطينية الحالية، فرصة لإشغال الفلسطينيين في أمور وقضايا تحت مستوى الاهتمام السياسي: أمور وقضايا تتصل أساسًا بهموم معيشية يومية، مثل شعار: "الغذاء مقابل الأمن".
ويجد هذا الطرف الإسرائيلي له دعمًا قويًّا من جانب الإدارة الأمريكية وسياستها، كما يجد في الوقت نفسه سكوتًا عربيًّا، يصب في النهاية وبشكل غير مباشر في صالح الطرف الإسرائيلي المستفيد من انهيار السلطة الفلسطينية.
ولا يحتاج إلى تأكيد، أن موقف الطرف الإسرائيلي المتخوف من انهيار السلطة الفلسطينية، لا يصب في مصلحة الأخيرة بمقدار ما يعبر عن وجهة نظر إسرائيلية، ترى أن انهيار السلطة الفلسطينية، سوف يخلق لإسرائيل مشاكل جديدة في الأراضي المحتلة، تضطرها إلى إعادة إنتاج قيادة فلسطينية جديدة، مما يمكن أن يعيد الصراع مع الفلسطينيين إلى بداياته الأولى.
إعادة إنتاج قيادة فلسطينية
إن إمكانية انهيار السلطة الفلسطينية قائمة، طالما بقيت وتطور المعطيات الراهنة في الاتجاه الذي تجري فيه، غير أن إمكانية الفلسطينيين في إعادة إنتاج قيادة لهم هو أمر قائم أيضًا، طالما بقيت القضية الفلسطينية دون حل عادل ودائم. وفي الأمثلة التاريخية تأكيدات واقعية: فقد أعاد الفلسطينيون إنتاج قيادات لهم بعد قيام إسرائيل، كلما تعرضوا إلى عمليات تدمير سياسي. ولم يقتصر إنتاج القيادات على بلدان الشتات الفلسطيني، وإنما حدث ذلك في الأراضي التي احتلت عام 1967، وكذلك في الأراضي التي أقيمت عليها إسرائيل، رغم قيام الأخير بفرض الجنسية الإسرائيلية على سكانها من العرب الفلسطينيين والذين يتقدم قادتهم اليوم للقول: إنهم فلسطينيون